الفكر حين يتحول إلى قوة تاريخية:
قال الطرابيشي:
إنني أنتمي إلى جيل الرهانات الخاسرة، فجيلنا قد راهن على القومية، وعلى الثورة ، وعلى الاشتراكية، وهو يراهن اليوم على الديموقراطية،لا لقيم ذاتية في هذه المفاهيم؛ بل كمطايا إلى النهوض العربي وإل تجاوز الفَوات الحضاري.
في قصة الحضارة لول ديورانت:
أن إمرأة تدعى نينوندلّانكلو عاشت في عصر لويس الرابع عشر 1643-1715 حياة فاضحة متهتكة،إلا أن تلك الحياة لم تمنعها من أن تلتقط قدرا من المعرفة لا يُستهان به،وأن تفتح صالونا أدبيا تقاطر عليه أربابُ الأدب والفن والسياسة، حتى أذهلت باريس كلَّها بما أبدتْ من ذكاء ومعرفة، بل إنها أثارت فضول الملك نفسه فاستمع إليها في قصره من وراء ستار.
عُمِّرت نينون بعد أصدقائها كلهم تقريبا، فلم دنى موتها تنافس اليسوعيون والجانسيون على هدايتها، فاستسلمت لهم في لطف وماتت في أحضان الكنيسة.
لم تترك في وصيتها على ما بلغته من ثراء سوى مال يسير لجنازتها حتى تكون أبسط ما يستطاع، ولكنها كتبت:
أطلب في تواضع إلى المسيو لارويه-وكان وكيلها- أن يسمح لي بأن أترك لابنه الذي يتلقى العلم عند اليسوعين ألأف فرنك ليشتري بها كتبا.
قال ديورانت:واشترى الابن الكتبَ وقرأها، وأصبح (فولتير).
إن التجربة الغربية تحدٍّ حضاري حافز، وليت مثلا أعلى أغلقته صيرورة التاريخ.
إن لم نقل بذلك فإن الموقف الحضاري سيجعلنا بشراً من الدرجة الثالثة بشكل دائم،وإن حثثنا الخطى أصبحنا بشراً من الدرجة الثانية.
وكلما تابعنا العلم والمعرفة بجد واجتهاد وتخلصنا من أثقال الاستبداد وتفرق الكلمة كلما اقتربنا من سباق الأمم لنكون في الطليعة لا في آخر الآخرين.
ولو كفَّ بعض المثقفين والأدباء والعلماء على حضّ الأمة لتكون مقلدة للغرب ونسخة أخرى منه، ولو توقف هؤلاء الرعناء عن تحطيم عقل العربي والمسلم وتمزيق دينه وتلوبث تاريخه وتقيده بعجلة الغرب وتطويقه به، لكان هناك متسع للنهوض والسير قدما في ركب الحضارة الخاصة بنا المتمثلة فينا ومنا لا من الغرب الذي سيظل غرباً والشرق الذي سيظل شرقاً.
في شهر نيسان /أبريل، من عام1930م عُقِدَتْ في الجامعة المصرية مناظرةٌ بين عباس محمود العقاد وسلامةموسى بشأن بيت الشاعر الإنجليزي رديارد كبلنغ القائل فيه: الشرق شرق والغربغرب، ولن يلتقي الإثنان، وقد أيّد العقاد رأيَ كبلنغ زنال 228 صوتا، في حين عارضه سلمة موسى ونال 132 صوتا.
لم يفهم العلمانيون ومن تابعهم أنه لا يمكن أن يجتمع الغرب والشرق في ظروف الاستعلاء والاستكبار والاستغلال من الغرب، والخنوع والخضوع والذلة والخوف والأمية والتراجع من الشرق، وبين هذا وذاك يلعب الدين المسيحي واليهودي والإسلامي في التعبئة والتوجيه، ذلك لأن صراع الشرق والغرب هو في المقام الأول صراع عقائدي وديني وإن أنكر البعض أو أظهر أن الدين لا علاقة له بذلك.
لن ننطلق في ركب الحياة على هذه الأرض، ولن نمزق الخوف من قلوبنا، ولن نكسر قيود الاستعباد والاستخذاء، حتى نأخذ بما أخذ به الأولون من الشجاعة واقتحام المخاطرة ودفن المصلحة الشخصية لمصلحة الأمة، والانكباب على العلم والمعرفة والاغتراف منهما، واحترام الآراء ، وأخذ ما يستفاد من الأمم الأخرى دون ما يؤثر على ديننا وعلى عاداتنا ،وتربية الأجيال على كمال القوة في كمال الرقة بوجود الحكمة والتخلق بالأخلاق الفاضلة، مع الاعتزاز بالدين الاسلامي والدفاع عنه وعن اللغة العربية،وإيقاد الإيمان بأركانه والإسلام بما فيه في القلوب والنفوس والأفكار.
بمثل هذه العدة والأسباب هي التي تأخذنا إلى النصر في مجالات العلم ومناحي المعرفة، وهذه وتلك تعطي دفقا كبيرا للمسير في ركب الحضارة بل تجاوزهم بمراحل متعددة.
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)
وقال المتنبي:
إذا غامرت في أمر مروم *** فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير***كطعم الموت في أمر عظيم.
وقال أبو القاسم الشابي:
سرْ مع الدهر، لا تَصُدَّنَكَ الأهوالُ أو تُفزِعَنَّك الأحداثُ
سِرْ مع الدهر، كيفما شاءَت الدنيا ولا يَخْدَعَّنَكَ النَّفَّاثُ
فالذي يُرهِب الحياةَ شقيٌّ سَخِرَتْ من مصيره الأجداثُ
المصدر:
قصة الحضارة ول ديورانت 31/48 بتصرف واختصار.
رحلتي الفكرية، عبد الوهاب المسيري ص452.
النزعة العلمية في الفكر العربي الحديث،نبيل عبد الجبار،ص 223.
ديوان المتنبي وديوان أبو القاسم الشابي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق