وقوع الحافر على الحافر في المعاني:
قال أمين نخلة:
وقوع الحافر على الحافر في المعاني يحصل بين لغة وأخرى حصولَه في اللغة الواحدة، ولقد جاء للسيدة(دي سيفينيه)في بعض رسائلها إلى ابنتها وكانت مَصْدورة قولها وهو من أشهر الرقائق التي تدور في كتب الفرنساوي: يا ابنتي إن صدرك يوجعني!
وجاء في كتاب القضاة هذا الكلام لسهل بن علي،قال:
كنتُ أُلازم ابن نعيم القاضي وأُجالسه وأنا يومئذٍ حديثُ السِّنِّ، وكنت أراه يتَّجر بالزيت، فقلت له: وأنت أيضاُ تَتَّجر؟ فضرب بيده على كتفي ثم قال: انتظر حتى تجوع ببطن غيرك! فقلت في نفسي: كيف يجوع إنسانٌ ببطن غيره؟فلمَّا ابتليتُ بالعيال إذا أنا أجوع ببطونهم.
إن الاهتمام بالأولاد من تُجاه الآباء يعطي شعورا بانطباعات تغيرية لدى الآباء لم يكونوا قد ألفوها واعتادوا عليها، ويجدونها غريبة عنهم ومنفرة لكنهم يقبلون بها على أي حال في نهاية الأمر.
وهذه الانطباعات الجديدة التي تبدأ بالدخول عليهم هي التَبَّخُل والتَجَبّن( من البُخْلِ والجُبْنِ) تكون جراء خوفهم على أبنائهم واهتمامهم بهم وحرصهم على العناية بهم ودوام التفكير بهم وتقديهم على غيرهم في شتى الأمور .
فترى الوالد وهو الذي كان شجاعا أبيا لا يخاف ولا يقبل الإهانة، تراه بعد أن يكون له أبناء تغير حاله وتبدل وضعه، فإذ به يقبل الإهانة إن كان في عمل، وتراه يتخوف من الوقوع في المشاكل لشغل فكره بما سيحصل لأولاده إن أصابه مكروه، وتراه يحرص كثيرا على عدم إضاعة المال فيما لا ينفع ولا يعود بالفائدة على أسرته، فيقلل من زيارته للآخرين حتى يقللوا من زيارته، وإن جاءه زائر قلل من إكرامه بسبب تفكيره بأن أولاده أولى وأجدر وأهم منه.
وهذا الفعل ليس مُعيباً لأن اهتمام الوالدين بأبنائهما يحق لهما أن يتصرفا مثل هذا التصرف،بسبب إعانتهما لأولادهما وإعالتهما لهم.
ومن هنا ينشأ (أجوع ببطون أبنائي، وأتوجع من صدورهم).
وقد نبهنا رسول الله لهذه الخاصية في فطرة الإنسان إذ قال:
(الولد مجبنة مبخلة) وهو تلخيص لما سبق الحديث عنه.
وأجِدُ أن الإنسان عليه أَن يَعْذَر الوالد أو الوالدة إِن ظهر له تصرف مثل هذا التصرف، لأن حب البنين والأولاد تفعل بالقلب فعل الماء بجناح الطائر وفعل سريان القشعريرة بجسم الإنسان، كما أن هذا الحب يجعل من الوالدَين فدائيين يفديان الأبناء ويُقدمانهم على نفسيهما وعلى الآخرين.
وليعلم بعد ذلك الأبناء هذه التضحية لأجلهم ، وليُقّدِّروا ذلك،فإنه وإِن لم يظهر لهم فهو موجود يحصل في كل وقت .
فأقل شيء يفعله الأبناء أن يبرَّوا بآبائهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق