الشعور بالنقص الحضاري:
جاء في مقالة لأحد الأساتذة نشرت في صفحة التراث من العدد 12198 من جريدة الرياض بعنوان (الآمدي الحنبلي سبق برايل في اختراع الكتابة للعميان) جاء في تلك المقالة:
كلما اشترى كتابا أخذ ورقة وفتلها فصنعها حرفا أو أكثر من حروف الهجاء لعدد ثمن الكتاب بحساب الحُمَّل، ثم يلصقها على طرف جلد الكتاب ويجعل فوقها ورقة تثبتها فإذا غاب عنه ثمنه حسَّ الحروف الورقية فعرفه.
إنه اختراع لم يُسبق إليه الآمدي بهذه الطريقة الفذَّة في كيفيىة سعر الكتاب، وهذا مما يدلنا على انه يُعد من المخترعين في فن الكتابة للعميان..
وأول من أشار ونبه إلى هذا العلم الآمدي هو شيخ العروبة أحمد زكي باشا حيث قال رحمه الله:
إن زين الدين الآمدي سبق برايل إلى اختراع طريقته في الكتابة بنحو 600 سنة لأن برايل الفرنسي اخترع طريقته في نحو سنة 1850م. انتهى بتصرف.
هناك ثلاثة كانوا من الأوائل الذين اعتنوا بمثل هذه الأمور وهم: العلامة أحمد زكي باشا، والأمير شكيب أرسلان،وميخائيل عواد..
إن مثل إيراد مثل هذه الأمور عند البعض ما هي إلا تعبير عن نقص حضاري يُطل من نوافذ الكتابات ، نقص أملاه عليه صاحبه تاريخ مشرق لأمة عظيمة ، كانت في يوم من الأيام ملء التاريخ ثم أضحت على هامشه...
لقد دفع ذلك بالبعض إلى أن يغمط المكتشفين والمخترعين من الغربيين حقهم، فكان ما إن يعثر أحدهم على خبر مهمل في حاشية كتاب وردت لفظة موهمة تشاكل شيئا من مخترعات اليوم، حتى يُسرع بتقرير ما كان للعرب من سبق في هذا،ويملأ صفحات الأهرام أو غيرها بالعنوانات المجلجلة..
والأمر أيسر من هذا كله، أيكون الآمدي الذي فتل من ورة حروفا ووضعها على كتاب ليتحسسها إذا غاب عنه ثمنه، سبق برايل في اختراع هذه الكتابة؟
طبعا، لا، لأنه تصرف فردي جاء على وفق ما يريد الآمدي، فهو لم يؤصل لكتابة العميان ولم يؤلف كتابا في ذاك ولم يكتب الطرق ولا الأساليب ولا المبادئ والقواعد لكتابة العميان، حتى يقال أنه سبق برايل في اختراع هذه الكتابة.
كان مصطفى جواد يقول: إن التاريخ خير مُرّبٍّ للأمم الضعيفة.
وهذا حقٌّ، إذا كانت تلك الأمم ذاتَ تاريخ، فكيف وليس تاريخٌ كتاريخنا بالأمس، وليست أمة هي في الضعف إلى ما نحن عليه اليوم؟!!
لستُ أعيب قراءة تاريخنا الحضاري وتمثُّلِه واستخراج خبِيءٍ مِن شأنِه أن يبعثَ فينا ما يحملنا على النهوض ومسايرة الأمم المتحضرة.
لقد ذكر ابن النفيس الدورة الدموية قبل أن تعرفها أوربا،
ولابن خلدون حديث مؤصل عن العقد الاجتماعي قبل حديث روسو في عقده الذي يعد إنجيل الثورة الفرنسية كما يقال..
لستُ أعيب ذكر أمثال هذه الأمور المدعومة بالحجة والبرهان مما لا يماري فيه منصف.
ولكني أعيب على الباحثين هذا الشعور الحاد بالنقص الحضاري الذي ألجأهم إلى أن يبخسوا الناس أشيائهم، فجاء منهم ما أضحك العقلاء منا.
كمثل إحدى الباحثات كتبت بحثا ذهبت فيه إلى أن العرب قد اخترعوا الكمبيوتر قبل الغرب؟ وكان دليلها على ذلك مربعات تشبه الطلاسم وجدَتْهَا في مخطوطة لا تدري شيئا عن اسمه واسم مؤلفها..؟!!
إن الرجوع لتاريخنا والاستفادة منه والإفادة، هو أمر صحيح يعود بالنفع للفرد وللمجتمع ككل، وهو أمر جدير بالعالم والمثقف والقارئ أن يفعله، لاستنباط العبر واتخاذ الفكرة المناسبة في معترك الحياة.
أمّا أن يتحول تاريخنا وحضارتنا لشعور بنقص إزاء ما يجري في البلاد المتقدمة علينا، فيصبح تاريخنا عائق من عوائق النهوض بسبب سوء قراءته وسوء فهمه، فهذا أمر مرفوض.
الأجدر بالعلماء والمثقفين والباحثين أن يجعلوا من تاريخنا وحضارتنا قاعدة صلبة للانطلاق إلى الحياة والخروج من قفص التبعية للغرب والانعتاق من ربقة الاستغلال، وإنشاء حضارة مكملة فيها الاختراع والابادع والابتكار لخير الفرد والمجتمع والوطن.
هذا هو الطريق الأنسب والطريق الأقوم الذي سلكه أوائلنا عندما انفتحوا لعلوم اليونان والرومان والهند والصين والفرس، فترجموا العلوم وتعلموها وعلموها ثم نقدوا مَن أخطأ، ثم ابتكروا واخترعوا وأبدعوا سواء من النواحي النظرية أو العملية، فكانت حضارة تزهى بعلماءها وتزدهر باختراعاتها.
أمّا نحن فلا زلنا مستهلكين لما ينتجه الغرب والشرق وما زلنا في آخر هامش هامش التاريخ، تأخرنا جدا وتخلفنا جدا عن ركب الحضارة.
لا تغرنك العمارات وناطحات السحاب في بلد ما، فهذا لا يُعبأ به، إنما المطلوب هم العلماء واختراعاتهم والباحثين واكتشافاتهم والمثقفين وإبداعاتهم والمجتمع وتحضره ومحافظته على أصوله وعقائده مع استفادته من الآخرين.
أما أن نقول سبقنا إلى كذا والعالم الفلاني سبق فلان إلى كذا... ونحن كسالى عن الاختراع جامدين عن الابتكار خامدين عن الابداع فهذا شيء مهين وأمر معيب.
ليس الفتى من يقول كان أبي***إن الفتى من يقول ها انا ذا
ويقول المتنبي:
لا بِقَومي شَرِفتُ بَلْ شَرِفوا بي ** وَ بِنَفسي فَخِرتُ لا بِجُدودِي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق