العوامل التي أحدثت أَبْيَنَ الأثَر في انبعاث حركة الآداب والعلوم والفنون وتقدمها السريع في العالم الإسلامي :
العوامل التي أحدثت أَبْيَنَ الأثَر في انبعاث حركة الآداب والعلوم والفنون وتقدمها السريع في العالم الإسلامي القديم منذ القرن الأول للهجرة النبوية وما تلاه من قرون عصر الازدهار:
يُمكن إجمال هذه العوامل فيما يلي:
1 – حيوية الدين الجديد وحثُّه على مداومة النَّظر ف الكتاب والسنة، وتدبر آيات الكون لاستنباط الأحكام، وتقويم الأخلاق،وتنظيم المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
والناظر للقرآن الكريم يستطيع من خلال تصفحه أن يجد ذلك مبثوثا في آياته ، فمن ذلك قوله تعالى:
(قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
وقوله (الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض)
وقوله ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت*وإلى السماء كيف رفعت* وإلى الأرض كيف سطحت) .
وفي الأحاديث النبوية جم غفير من الأحاديث التي تدعو للتعلم والتفكر والتدبر، من ذلك :
طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
وقوله: تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذاته، فإنكم لن تقدروا.
وقوله: لا عبادة كالتفكر ، تفكر ساعة خير من عبادة ستين عاماً.
وسواه الكثير.
2- اتساع رقعة العالم الإسلامي بفضل الفتوحات وتنظيم نشر الدعوة، وما ترتب على ذلك من اختلاط الشعوب وانتقال الناس والأفكار والثقافات بين أطراف الدولة أقطارها.
وكان لهذا الاتساع فائدته التي قامت عليها حضارة العالم الإسلامي من الاطلاع على العلوم لدى الأمم الأخرى كاليونان والرومان والهند والصين والفرس،وتعامل العلماء مع هذه العلوم من ترجمة وشرح ونقد وإضافات واكتشافات جديدة أسهمت في تقدم الحضارة الإسلامية .
وإن كان وقف لمثل هذه العلوم فئات من العلماء حصروا عقولهم على نمط معين ولم يتقبلوا الوافد من العلوم لأسباب أو أخرى، فهؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم لوجود الكثير من العلماء ممن دعم هذه العلوم ونشرها واستفاد منها المجتمع الإسلامي.
3- تطلع صفوة أهل العلم وطلابه إلى معرفة ثقافات الشعوب الأخرى من طريق ترجمة المؤلفات المنقولة إلى العربية وتمحيصها وتفسير غامضها وفكِّ رموزها واستخلاص فوائدها بعد عرضها على أصول الشريعة الإسلامية بقصد التوفيق والتقريب بين ضرورات النقل وجولات العقل.
ومن هؤلاء أعظم الفلاسفة وأكبرهم وهو ابن رشد الذي ساهم مساهمة فعالة في التقدم الفكري والرقي العقلي .
4-مرونة اللغة التي ظهرت في قدرتها المبكرة والمبتكرة على استيعاب الثقافات الأجنبية ومجاراة حركة الآداب والعلوم والفنون والاستجابة لمقتضيات التطور بإصلاح الكتابة وتقعيد أصول النحو والصرف والبلاغة والبيان وتجميع أشتات اللغة، وإيداعها في المعاجم والمجموعات اللغوية مع شرحها وضبط معانيها ومبانيها.
ولم تكن اللغة العربية في يوم من الأيام عائقا أمام التقدم والتطور بل كانت مسايرة وسباقة ومرنة، ووجود المصطلحات المختلفة التي عربت أو التي استعربت في لغتنا دليل على ذلك، وإن كان في الأزمنة الأخيرة توقفت عن مواكبة التطور فهذا ليس خطؤها بل خطأ العلماء المتعصبة الذين انحصروا في بوتقة التزمت والتشبث وعدم قبول الوافد الجديد.
5- اتساع رقعة الدولةِ وتَشّعُّبِ نُظُمِهَا السياسية والاقتصادية والإدارية، ورغبةُ الخلفاء والولاة في ضبط هذه النُّظُم وتوطيد دعائم الدولة والاعتماد على العلماء وأصحابِ النظر في شؤون المال ووصْف البلدان وأحوال الأقاليم ومسالك القوافل التجارية وتنظيم موارد الأرزاق والأموال والمنتوجات الزراعية والصناعية.
والذي يقرأ كتب التاريخ وكتب الإدارة والسياسية والنظم العربية الإسلامية في التاريخ الإسلامي فسيرى ذلك واضحا بينا، مثل كتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشا، وكتب الفقه الإسلامي في أبواب المعاملات والزواج والقضاء وكتاب الخراج وغير ذلك ...
إن الأثر الذي أحدثَتُه العواملُ المذكورة في طفرة العلوم والآداب والفنون المختلفة
المتنوعة المتعددة يدلُّ عليه العديد الكبير من المؤلفات الموضوعة والمُترجَمة، وما
عَرَفَتْهُ الحواضر الإسلامية من تعدد مجالس العلم وتنوع المناظرات واختلاف
الآراء، وتحرُّك الهِمم إلى طلب العلوم وارتياد مصادرها وركوب مشاقّ السفر من
أجلها، وحرص عدد من رجال الدولة على تشجيع حركة العلوم والمعارف والمبادرة
إلى إثارتها وتوسيعها، ببذل الأموال للعلماء ولطلبة العلم وفتح المدارس والمكتبات
والوقف عليها، والطلب من العلماء الكتابة في مواضيع معينة، وتشجيع الابتكار
والاختراع والابداع في كافة المجالات، فكانت الأمة الإسلامية كخلية النحل لا تكف
عن العمل والابداع و عن العلم والمعرفة ونشرهما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق