التراجم الذاتية (فبئس الناس وبئس الحياة):
التراجم الذاتية هي التي يتكلم الكاتب عن نفسه وحياته وما أصابه فيها ....
قارئ كتب التراجم الذاتية يتوصل لقناعة من دروسها أن كل تجارب الإنسان في حياته قابلة للنجاح والفشل، لا يخرج شيء من تجارب حياته إلى غير هذين.
وأما معاملة الله فإنها لا تقبل إلا النجاح ببرهان وثيق.
وما إن يستمر المرء في القراءة في التراجم (السير) الذاتية، حتى يصل أمام حقيقتين تطلان عليه وهما:
1- أن المترجمين لأنفسهم والكاتبين لسيرهم يُجمعون كلهم على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأزمانهم وأعمارهم وأديانهم، وتفاضل تجاربهم، وتباين مشاربهم، وتنوع مطارح مقاديرهم، على:
أن الحياة نّصّبٌ ومشقة، وأنهم ما نالوا ما نالوه منها إلا بالصبر والتجلّد والمغالبة.
قلْ لزماني ما شئتَ فاضغط ** قد دبرَ الجابرُ الجليبُ
أصبتني بالخطوبِ حتى ** لم تُبْقِ لي مقتلا تصيبُ
في كل يومٍ جورٌ غريبٌ ** عندي عليه صبرٌ غريبُ
حتى لقد صار عجيباً ** منك الذي كله عجيبُ
وهذا شأن الحياة مع الناس، لا تؤخذ الحياة بسهولة ويسر ، بل بعسر وتعب ومشقة ، ومغالبة الآخرين حتى تتوصل لما تريده سواء كان بوسائل شرعية ومعاملات فاضلة وأخلاق حسنة لمن تربى ونشأ على حسن التربية وطيب البيئة.
أو بوسائل غير شرعية ومعاملات ملتوية وأخلاق سيئة لمن أراد بلوغ هدفه بأس طريقة وأي سبيل، من النصب والاحتيال والخداع والكذب والنفاق والظلم .
وقد يكون قد نشأ على سوء التربية وقذارة أخلاق مَن حوله، أو كان عَرَضا عرض له فاستحكم منه لسبب أو آخر.
قال المتنبي:
لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله***لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
وقال محمود سامي البارودي:
من طلبَ العزَّ بِلا آلةٍ ** أَدْرَكَهُ الذُّلُّ مَكانَ الظَّفَرْ
فَاصْبِرْ عَلَى الْمَكْرُوهِ تَظْفَرْ بِما ** شِئْتَ ، فَقَدْ حَازَ الْمُنَى مَنْ صَبَرْ
وقال أحمد شوقي:
وما نيل المطَالِبِ بالتمني ***ولكن تؤخذ الدنيا غلابا.
وما استَعصى على قومٍ مَنال*** إذا الإقْدَامُ كان لهم رِكابا
2- يُجمِع من كتب في التراجم والسير الذاتية وفيهم العالم والأديب ، والمخرج والممثل والفيلسوف، والقائد والجندي، والسياسي والأستاذ، والرسام والمهندس، والتاجر والطبيب والمريض،والسجين والفقير، ومن شئت وما شئت، يجمعون على فساد طبيعة الإنسان، وسوء خُلُقِه، وبشاعة مَخبَرَهِ،وخُبْثِ طَوِيَّتِهِ،ورداءةِ صنفه، وأنه لم ينلهم من أوصاب هذه الدنيا وأدواء هذا العمر وأتراح هذي الروح،أشدّ ولا أشقّ ولا أكثر إيلاماً من صراع الإنسان وحسَدهِ وقُبحه.
فمِن كاذب لا يصدق إلا في أنه كاذب، وخائنٍ لمَن ائتمنه، ومنتكِّر لصديق أحوج ما يكون إليه، وظالمٍ يطلب ما لاحقَّ له فيه،وجاهلٍ خابي الذّهن فاترِ الموهبة يَنقَم على هذا وذاك أنّ منَّ الله عليهما بما ليس فيه.
إلى ذي روحٍ خبيثةٍ يأبى صاحبها أنتُزَع منه قبل أن يسيء إلى مَم أحسن إليه، وذي أَثَرَةٍ مفرطةٍ يتمنى معها أن لو صَرَمَ نصف أهل الدنيا ولا تفوته نومة العصر.
في أمثلة بغيضة، ونماذج كريهة، ونسخ مكرورة مشوَّهة، يخجل المعافي أن يجتمع معها في مسمى واحد.
حتى قال بعض المؤلفين-شبه معتذر-!!!: لعلي لا أجانب الصواب ولا أبتعد عن جوهر الحقيقة إن قلتُ: إنني كائن بشري.
ناسٌ، إذا عَبَدُوا عُدُّوا ملائكةً***وإن طغَوا فهُمُ جِنٌّ عفاريتُ
إن الطبيعة البشرية فيها مثل هذه الخصال والأخلاق التي تجعل المرء يفكر ألف مرة بمعاشرة الناس واتخاذ الأصحاب، ولكن ماذا يفعل الإنسان ، والإنسان مدني بطبعه، واتخاذ طريق الوحدة والابتعاد عن الناس أمر شاذ ونادر لا يستقيم مع الطبيعة البشرية وإن وردت بعض الآثار في مثل هذا، لكن لا يستطاع فعل ذلك، لأن الطبع غلب التطبع، والطبيعة تغلب التصنع، ولو قال مَن قال مَا قال.
قال أبو العلاء المعري:
وجانِبِ الناسَ تأمَنْ سوءَ فعلِهمُ***وأن تكونَ لدى الجلاّس ممقوتا
لا بدّ من أن يُذِمِّوا كلّ مَن صحبوا***ولوْ أراهمْ حَصى المِعزاءِ ياقوتا
وقَضِّ وقْتَكَ بالتّقْوى، تجوّزُهُ***حتى تصادِفَ يوماً، فيه، موقوتا
وكما في الناس أخيار فأيضا يوجد أشرار لأن متلازمة الضدين موجودة في هذا العالم القائم عليه، ليستقيم أمره ويجري على النسق الذي رُتِّبَ له.
فالأبيض والأسود، والظلم والعدل، والنور والظلام، والخير والشر، وهكذا فإن هذه الأمور موجودة، حتى يختار الإنسان ما يريد ليحاسب على اختياره.
قال عبد الغني النابلسي:
وما أنت مجبور وربك خالق ** لك الاختيار المحض من غير مرية
وقال محي الدين:
حتى تجازى كلُّ نفسٍ سعيها ** يومَ الوقوفِ عليه يومَ حسابِ
ومع هذا وذاك فإن الإنسان السوي يتعلم من الآخرين تجاربهم في حياته، وخاصة من تراجمهم لأنفسهم وكتابتهم لسيرهم-بغض النظر عن صدقها أوكذبها، عن صحتها أو خطئها- وهكذا يفتح الإنسان الباب ليدخل إلى الشارع ويعود إلى الحياة كرّة أخرى ، فإذا الإنسان ذئبٌ يقطع أخاه الإنسان قطعا شديدا، وإذا الحياةُ هي الحياة: تلد بنيها، ثم تعود فتخونهم وتفعل بهم ما تفعله أم التماسيح من قتلهم إن جاعت.
فبئس الناس وبئس الحياة
سئمتُ كل قديمٍ*** عرفتُه في حياتي
إنْ كانَ عندكَ شيءٌ *** من الجديدِ فهاتِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق