الخميس، 2 يناير 2014

الفرق بين (عن مواضعه) و (من بعد مواضعه)


الفرق بين (عن مواضعه) و (من بعد مواضعه):
إنه ليعتري المسلم الحق فرحٌ في القلب ونشوةٌ في الروح وطريق في النفس، لما يطلع على بلاغة القرآن وجمال نظمه ورقة تعبيره، فتهتز أساريره كما انتفض العصفور بَلَلَهُ القطر، ويعتريه هزةٌ لها بين الجوانح دبيبُ.
وهذا حال المسلم المتفكر في آي القرآن المتبصر في روائع بيانه وجمال تعبيره، تحقيقا لقوله عز وجل(أفلا يتدبرون القرآن) وتطبيقا لـ( ولقد يسرنا القرآن فهل من مُدَّكِر)
وهذه الآيات داعيات المسلم إلى الوقوف على حروف وكلمات القرآن وجمله وعباراته وآياته وسوره وقوف المتأمل المتبصر المستبصر في معانيها، والمستكشف عن بلاغتها، والمتتبع لبيانها، والمتعرف لأهدافها، كي يغذي عقله بالعلم ، وفهمه بالمعرفة، وقلبه بحب الله وحب رسوله وحب كتابه وحب الإسلام، ليغدو مدافعا مناضلا عن هذا الدين العظيم وعن رسوله وعن كتابه، وكي يمتلئ قبله بالإجلال والعظمة لمُنزِل القرآن .
فتعالوا لنلقي نظرة على الفرق بين عن مواضعه و من بعد مواضعه:
في سورة النساء (يُحَرفون الكلم عن مواضعه)
في سورة المائدة(يحرفون الكلم من بعد مواضعه)

أما في سورة النساء : (عن مواضعه)، لأنهم يزيلونه عن موضعه ويبدلونه ويضعون مكانه كلاما آخر غيره، وبذلك قد أمالوه عن مواضعه التي وضعه الله فيها. وأزالوه نها.
وأما في سورة المائدة: (من بعد مواضعه): لأن الكلام له موضع وهو أولى أن يكون فيه،فحين حرفوه  نقلوه من الموضع الذي وضعه الله فيه فصار مكانه ومستقره إلى غير موضعه الذي كان فيه أصلا، وهذا يقال فيه: من بعد مواضعه.
ومثال التحريف عن مواضعه : كما قالوا لما أمروا أن يقولوا (حطة) عند دخول القرية، فحرفوها عن موضعها وقالوا( حنطة) فجاءت (عن) في (عن مواضعه) مناسبة لما فعلوه.
وفي هذا إشارة إلى أنههم شعب لايوثق به ولا بمعاهداتهم ولا بوعودهم، وهذا الأمر رغم أنه معروف، فإن بعض حكام العرب الحمقى أقاموا معهم معاهدات سلام وصدقوا وعودهم.
وقد يكون التحريف في آية النساء في قوله(يُحَرفون الكلم عن مواضعه) هو إشارة إلى التحريف الأول لليهود عند نزول التوراة، فغيروا وبدلوا.
وأما آية المائدة، فإيماء إلى تحريف بني إسرائيل في زمن الرسول عليهم الصلاة والسلام عندما غيروا ما قيل لهم في التوراة بغير معناه، مما بقي من آيات لم تُحرف.
فـ(عن) لما قَرُبَ من الأمر، و(بعد) لما بَعُدَ من الأمر.
وجاء هنا : { عَن مَّوَاضِعِهِ } ، وفي المائدة : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } :
 أمَّا ( عن مواضِعه ) فَعَلى ما فَسَّرناه من إزالته عن مواضِعه التي أَوْجَبَتْ حكمةُ اللهِ وَضْعَه فيها بما اقتضَتْ شهواتُهم من إبدالِ غيره مكانَه .
 وأما { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } فالمعنى أنه كانت له مواضع هو جدير بأن يكونَ فيها ، فحين حَرَّفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقارِّه ، والمعنيان متقاربان  .
وقد يقال إنهما سِيَّان ، لكنه حُذِف هنا وفي أول المائدة{مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ }.
 لأنَّ قولَه ( عَنْ مَّواضِعِه ) يدلُّ على استقرارِ مواضعَ له .
 وحُذِف في ثاني المائدة ( عن مواضِعِه ) لأنَّ التحريفَ من بعد مواضعه يدل على أنه تحريفٌ عن مواضعِه .
فالأصلُ : يُحَرِّفون الكلمَ من بعد مواضعِه عنها ، فَحَذَف هنا البعدية وهناك ( عنها ) توسُّعاً في العبارةِ ، وكانت البداءةُ هنا بقوله ( عن مواضعِه ) لأنه أخصرُ ، وفي تنصيصٌ باللفظِ على ( عن ) وعلى المواضعِ وإشارةٌ إلى البعدِيَّة   .
والظاهرُ أنهم حيث وُصِفوا بشدةِ التمرُّدِ والطغيانِ وإظهارِ العداوةِ واشتراءِ الضلالةِ ونَقْضِ الميثاق جاء { يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } كأنهم حَرَّفوها من أولِ وهلةٍ قبل استقرارها في مواضعها وبادَرُوا إلى ذلك .
 ولذلك جاء أَوَّلُ المائدة كهذهِ الآيةِ حيث وصفهم بنقضِ الميثاق وقسوةِ القلوب .
 وحيث وُصِفوا باللين وترديدِ الحكم إلى الرسول جاء { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } كأنهم لم يبادِروا إلى التحريفِ ، بل عرض لهم بعد استقرارِ الكلمِ في مواضعِها فهما سياقان مختلفان.
وعبر بـ" من بعد مواضعه " وفي مواطن أخرى بقوله { عَن مَّوَاضِعِهِ } :
لأن المقام هنا للحديث عن الأحكام المستقرة الثابتة التي حاول أولئك المسارعون في الكفر تغييرها وإحلال أحكام أخرى محلها تبعاً لأهوائهم كما حدث في قضية الزنا وفي غيرها من القضايا التي تحاكموا فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من المناسب هنا التعبير بقوله : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أي : من بعد استقرار مواضعه وثبوتها لا يقبل التحريف أو التغيير أو الإِهمال .
وإن إدراج لفظ { بَعْدَ } للتنبيه على تنزيل الكلم منزلة هي أدنى مما وضعت فيه لأنه إبطال النافع بالضار لا بالنافع أو الأنفع ، فكأن المحرف واقف في موضع هو أدنى من موضع الكلمة يحرفها إلى موضعه ، ولا يخفى بعده ، وقال بعضهم : إن { مِنْ } للابتداء ، ولفظ { بَعْدَ } للإشارة إلى أن التحريف مما بعد إلى موضع أبعد ، وفيه من المبالغة في التشنيع ما لا يخفى ، وقرأ إبراهيم يحرفون الكلام عن مواضعه .
وفي الآية: { مِنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } ، فكأن المسألة لها أصل عندهم ، فالكلام المنزل من الله وضع - أولا - وضعه الحقيقي ثم أزالوه وبدَّلوه ووضعوا مكانه كلاما غيره مثل تحريفهم الرجم بوضعهم الحد مكانه .
أما قوله : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } فتفيد أنهم رفعوا الكلام المقدس من موضعه الحق ووضعوه موضع الباطل ، بالتأويل والتحريف حسب أهوائهم بما اقتضته شهواتهم ، فكأنه كانت له مواضع . وهو جدير بها ، فحين حرفوه تركوه كالغريب المنقطع الذي لا موضع له ، فمرة يبدلون كلام الله بكلام من عندهم ، ومرة أخرى يحرفون كلام الله بتأويله حسب أهوائهم.
وعندما يُنقَل إليهم الكلام يحاولون تصويره على الغرض الذي يريدون ، ولذلك يقول عنهم الحق : { يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } : أي أنهم يُحرِّفون الكلام بعد أن استقر في مَواضعه ويستخرجونه منها فيهملونه ويزيلونه عن مواضعه بعد ان وضعه الله فيها وذلك بتغيير أحكام الله ، وقال الحق فيها أيضاً من قبل ذلك : { يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } [ المائدة : 13 ] أي أنهم حَرَّفُوا الكلام قبل أن يستقر .
وقوله تعالى : { يُحَرّفُونَ الْكَلم عَن مّوَاضِعِهِ } هو وما عطف عليه بيان لاشترائهم بالمذكور ، وتفصيل لفنون ضلالهم ، فقد روعيت في النظم الكريم طريقة التفسير بعد الإبهام ، والتفصيل إثر الإجمال ، روماً لزيادة تقرير يقتضيه الحال ، أفاده أبو السعود .
قال الإمام ابن كثير : قوله : { يُحَرّفُونَ الْكَلم عَن مّوَاضِعِهِ } أي : يتناولونه على غير تأويله ، ويفسرونه بغير مراد الله عز وجل ، قصداً منهم وافتراء .
وقال العلامة الرازيّ : في كيفية التحريف وجوه :
أحدها : إنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر .
والثاني : أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ من معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية ، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا ، بالآيات المخالفة لمذاهبهم ، وهذا هو الأصح .
والثالث : أنهم كانوا يدخلون على النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ، ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به ، فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه . انتهى .
وقال الرازيّ : ذكر الله تعالى ههنا : { عَن مّوَاضِعِهِ } وفي المائدة : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } والفرق : إنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الفاسدة لتلك النصوص ، وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب ، وأما الآية المذكورة في سورة المائدة ، فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين ، فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة وكانوا يخرجون اللفظ أيضاً من الكتاب ، فقوله : { يُحَرّفُونَ الْكَلم } إشارة إلى التأويل الباطل ، وقوله : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } إشارة إلى إخراجه عن الكتاب .
والله أعلم.
هُنا نزل القرآن من أول الأمرِ***هُنا في حراء أشرقت شمس ذا الفجرِ
هُنا جبل النور الذي في فؤاده*** تلألأ نور العلم في صفحة الدهرِ
بمكة شع النور وانكشف الدجى***وعُلِّم خير الخلق ما لم يكن يدري
بها خير قُرَّاء الخليقة قد بدا***مسيرتَه الكبرى مع الآي والذكرِ
فقال له جبريل[ اقرأ] وضمّهُ***وأرسله أخرى لِتهيئةِ الأمرِ
فقال له { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } بعدما***تهيّأ قلب المصطفى للذي يجري
فنُبِّي بـ{ اقْرَأْ } ثم أرسل بالتي***بها{ قُمْ فَأَنذِرْ } بغتة البعث الحشرِِ
هُنا حميَ الوحيُ الذي أنقذ الورى***فكان رسول الله يتلوا على الإثرِ
فأوحى إليه الله أن كُفَّ لا تخفْ***فإنَّ علينا جمعهُ لك في الصدرِ
وعلَّمه أصحابَه فانبرَوْا له***كـ"زيدٍ، أُبيٍّ، وابنِ عفانَ، والحَبرِ"
ومن بعدُ جاء التابعون فمنهمُ***يزيد بن قعقاعٍ، كذا الحسن البصري
وجاءتْ قرونٌ بعضها إثر بعضها***ويحظى كتاب الله بالحفظِ والنشرِ
فأحيِ إلهي بالقرآنِ قلوبنا***ولا تحرِمَنَّا ربَنا وافرَ الأجرِ
وصلِ على خير الأنامِ وصحبهِ***مع الآلِ والأتباعِ في موكبِ البِرِّ
المصدر:
-الكشاف 1/530
-كشف المعاني ص146
-الدر المصون في علم الكتاب المكنون، السمين الحلبي.1/1128
-التفسير الوسيط،محمد سيد طنطاوي 1/1267
-روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ،الألوسي 4/489
-تفسير الشعراوي 1/1559 و 2170 .
- محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق