ذكر شيئين وعود الضمير على أحدهما دون الآخر:
لا شيء يضاهي قراءة القرآن الكريم بتدبر عقل وتأمل فكر وخشوع قلب وإلقاء السمع والبصر.
إن قراءةً مثلَ هذه؛ تنير القلب بأنوار ضافية على الروح فتنعشها، وعلى العقل فتزيده علماً ومعرفة، وعلى النفس فتزكيها وتطهرها، وعلى الفكر فتحثه على التفكر والتدبر وإعمال العقل في ملكوت الله في السماء وما فيها وفي الأرض وما عليها وداخلها، وفي النفس والإنسان وما فيه.
إن المسلمين مقصرون جدا في تعاملهم مع القرآن الكريم، الآباء مع أولادهم، والمعلمين مع تلاميذهم، وأساتذة الجامعات مع طلابهم، ووزارات التربية والتعليم في مناهجهم، مقصرون تقصيراً كبيرا، سواء في التعليم والتدريس أو التربية والتهذيب أو التشجيع عليه- وهذا أقل القليل-.
حتى يصلح المجتمع وتَقِلَّ الجرائم لا بد من التربية على القرآن الكريم والسنة النبوية.
حتى نزيل الفساد والإفساد لا بد من التنشئة على القرآن الكريم والسنة النبوية.
وأرى هذا قليل جدا في مجتمعاتنا ونحن مسلمون منتمون للدين الإسلامي، فما أحرانا أن نهتم بالقرآن الكريم وتحفيظه وتعليمه ونشره وتطبيقه، فلن نُعَزُّ بغيره، ومهما طلبنا العزة ونحن تاركون له فلن حصل عليها.
عند قراءتنا القرآن الكريم فإنا سنجد أمراً ملفتاً للانتباه، وهو:
أن القرآن يذكر شيئين ويعود الضمير على أحدهما، والغالب يعود على الشيء الثاني لقربه،
كما في قوله تعالى( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين)
فقد أعاد الضمير (ها) في (إنها) للصلاة ، لأنها الأقرب للضمير، ولعظم شأنها.
وكما في قوله تعالى (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدَّره منازل..) .
أي : وقدَّرهما.
فقد أعاد الضمير على القمر، لقربه، ولأنه به يُعلَمُ الشهور والحساب القمرية عند العرب.
وكما في قوله عز وجل( والله ورسوله أحق أن يرضوه..) أي: يرضوهما.
فقد خُصَّ الرسول بالضمير العائد لأنه و داعي العباد إلى الله تعالى، والمُخاطِب له، ولأنه هو المبلغ لكلام الله وشرعه وأوامره، ولأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله، إذ رضا الرسول مُندَرِج تحت رضا الله، ورضاؤهما واحد، لقوله تعالى( مَن يطع الرسول فقد أطاع الله..).
ولم يأت الضمير في القرآن الكريم عائداً على الشيء الأول إلا في قوله تعالى ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها...).
والأصل:إليهما، إذ الأصل في الضمير أن يعود على أقرب مذكور بين شيئين سبقا الضمير، وأقرب مذكور هنا في الآية( اللهو)، لكن الآية خُصَّت بالضمير العائد إلى (التجارة):
-لأن التجارة كانت سبب الإعراض عن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يخطب يوم الجمعة.
-ولأن التجارة تجذب قلوب العباد عن طاعة الله، والمشتغلون بالتجارة يكثرون من اللهو، ولأن الصلاة أكثر نفعاً من اللهو، فعاد الضمير على التجارة وخصصها تنبيها لنا لكل ما سبق.
وفي قوله تعالى ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها...)
فقد قال(ينفقونها) وهما شيئان :الذهب والفضة، لأن ذهب إلى المعنى دون اللفظ، إذ كل واحد منما يساوي عدد كثير من الدنانير والدراهم والنقود، فهو مثل قوله تعالى:(وإن طائفتان من المؤمين اقتتلوا ..)
ضمير مثنى عائد للمفرد:
في قوله تعالى ( نسيا حوتهما) أمر ملفت للانتباه حقاً، فإن الناسي هو فتى موسى بدليل قوله (فإني نسيت الحوت)، لكن أُضيف النسيان لموسى وفتاه، وذلك:
لأن النسيان بمعنى التَرك، فسيدنا موسى ترك التفد والمتابعة، وأما فتاه فقد ذَهِلَ عن ذلك، فجاءت الآية الكريمة ونسبت النسيان لكليهما.
وفي قول جلَّ وعزَّ ( إنْ يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما)
ثنى الضمير في (أولى بهما) وكان حقه أن يُفرِدَه كأن يقول(أولى به) لقوله (إن يكن غتنيا أو فقيرا) في معنى إن يكن أحد هذين النوعين.
لكن البيان القرآني جاء بالتثنية (أولى بهما) ذلك لأن الضمير رجع إلى ما دلَّ عليه قوله (إنْ يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) لا إلى المذكور، كأنه قال: فالله أولى بجنس الغني والفقير أي الله أولى بالأغنياء والفقراء،وذلك ليؤكد على شمولية ولاية الله لكل الناس بلا استثناء.
مما جاء في القرآن من الإفراد فيما ظاهره التثنية:
قوله عز وجل (وجعلناها وابنها آية للعالمين)
انتبهوا، قال: (آية) ولم يقل (آيتين)، والسر في ذلك:
أن شأن مريم وابنها شأن واحد في أنهما آية ودلالة على قدرة الله وعظمته ورحمته.
ولو قال(آيتين) لكان صوابا، لأنها ولدت عيسى من غير أب، وتكلم يسى في المهد.
وقد يكون سر الإفراد في (الآية) في أنَّ ميلاد عيسى عليه الصلاة والسلام دون أب وكلامه في المهد إنما هو معجزة خاصة به دون غيره، فهو بما حدث له يصح أن يكون علامة أو آية، فأفردت (الآية) ولم تثنى (آيتين).
والعجيبة فيها أن تلدَ بدون ذكورة ، والعجيبة فيه أن يُولَد بلا أب ، فكلاهما آية لله ومعجزة .
والآية هي الأمر العجيب الذي يُثبت لنا طلاقة قدرة الخالق في الخَلْق ، وحتى لا يظن البعض أن مسألة الخَلْق مسألة ( ميكانيكية ) من أب وأم ، لذلك كان وجه العجب في خَلْق عيسى أن يخرج عن هذه القاعدة ليجعله الله دليلاً على قدرته تعالى ، فإنْ أراد أنْ يخلق خلق من العدم ، أو من أب فقط ، أو من أم فقط ، وحتى في اكتمال العنصرين يوجد الأب والأم ، لكن لا يوجد الإنجاب ، إذن : المسألة إرادة لله عز وجل ، وطلاقة لقدرة إلهية لا حدودَ لها .
وجعله آية للناس دليلٌ على مزيد التشريف .
أما السيدة مريم فآياتها كثيرة :
إحداها : ظهور الحبل فيها لا من ذكر ، وذلك معجزة خارجة عن العادة .
وثانيها : أنَّ رزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة لقول زكريا : ( أَنَّى لَكِ هَ اذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ).
وثالثها ورابعها : قال الحسن : أنها لم تلتقم ثدياً قط ، وتكلمت هي أيضاً في صباها كما تكلم عيسى .
وأما آيات سيدنا عيسى - عليه الصلاة والسلام – فمعروفة.
فإن قيل : هلا قيل آيتين كما قال : ( وَجَعَلْنَا الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ )ليطابق المفعول ؟
فالجواب :أنَّ كلاًّ منهما آية بالآخر فصارا آية واحدة ، لأنّ حالهما بمجموعهما آية واحدة ، وهي ولادتها إياه من غير فحل . أو تقول : حذف من الأول لدلالة الثاني ، أو بالعكس أي : وجعلنا ابن مريم آية وأمه كذلك.
ومن ذلك قوله تعالى (فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين) :
جاء التعبير بـ(الإفراد) في [رسول] وظاهر السياق (التثنية) [ رسولا] لأن المرسل إلى فرعون كان موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام.
قد يكون ذلك لأن لفظ الرسول اسم للماهية واحد أو أكثر، فيستوي فيه الواحد والاثنان.
ولاتفاقهما في شريعة واحدة، واتحادهما بسبب الأخوة والرسالة، كأنهما رسول واحد.
فجاء لفظ الإفراد (رسول) لهما دون التثنية(رسولا) وعومل المفرد معاملة المثنى للتأكيد على وحدة الرسالة والشريعة والهدف من الرسالة التي ابتعثهما الله.
وتأمل قوله سبحانه (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)
قال (يخرج) لم يقل(يخرجان).
ذلك لأنه لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرج منهما.
ومثل ذلك قوله جل وعلا:
(قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) ثم قال( فتاب عليه) رجع الكلام إلى آدم بالرحمة والقبول دون حواء.
ذلك لأن حواء كانت تبعا لآدم عليهما الصلاة والسلام، فجاء الكلام لآدم والمعنى لهما معا.
ومثله قوله سبحانه ( قد أجيبت دعوتكما) بالمثنى.
والداعي كان (موسى) فجاء اللفظ بـ(التثنية) في (دعوتكما)
وحقه أن يكون (مفردا) مثل(أجيبت دعوتك).
والسبب أن موسى كان يدعو وهارون كان يُؤَمِّن، أو كان يدعوان معاً، وموسى هو المبعوث بالرسالة، فجاء الجواب لهما معاً، تطميناً لهما وحثَّاً على مواصة الدعوة والتبليغ.
والله أعلم.
إن القرآن الكريم فيه كثير من الفوائد المتنوعة واللطائف المختلفة، والمعاني الغزيرة، لا يعرفها إلا من قرأ القرآن بتدبر وتأمل وتفكر، وألقى سمعه عند سماعه للقرآن فأنصت، وفَكَّرَ بما يسمع.
فمثل هذا يكون أشد نفعاً بالقرآن الكريم مِن غيره.
وجدير بالمسلم الصادق والمؤمن المخلص أن يتبنه لآيات القرآن ويتعلمها ويفهمها ويطبقها، ويربي أولاده عليها، وينشرها بين معارفه، فذاك نافع له في الآخرة، فإن الدنيا أيام معدودات ثم يموت الإنسان ولا ينفعه إلا عمله.
والقرآن الكريم هو النجاة للمسلمين مما يحيق بهم، وهو الملاذ النافع لهم في حياتهم، وهو النصوح الصادق المخلص في معيشتهم وقوانينهم.
ولكَمْ تأمل عالمٌ في آيهِ *** وكم استقى من نبعه الرقراقِ
واستنبط الأحكام من تشريعه *** بتفكرٍ وبنظرة الإطراقِ
وكم اعتنى الفقهاء باستقرائه *** واستخلصوا الأحكام باستيثاقِ
سبَروه ثم تصيَّدوا صدفاتِه *** وكنوزَه من بحره الدَّفّاقِ
ولكم تأثر قارئٌ من آيةٍ *** واغرورقتْ بدموعهنَّ مآقِ
ولكم تنافس صبيةٌ في حفظه *** وكذا الكبارُ، بهمةٍ وسباقِ
ولكم تحلَّق حوله حُفَّاظه، *** أَعظمْ بها من حلقةٍ وتلاقِ
ولكم تلا طفلٌ صغيرٌ آيهُ *** ببراءةٍ من داخل الأعماقِ
ولكم تغنَّى قارئٌ مترنِّماً **** بالذكر بالصوت النديِّ الراقي
ولكم تمتَّعت النحاةُ بنطقه *** ولكم تذوقه أولو الأذواقِ
وكم استقى البلغاء من كلماته ***وتخيَّروا من روعة الأعذاقِ
واستلهم الخطباءُ منه مواعظ الـ *** ـتوجيه والإرشاد والإشفاقِ
هو للخليقة منحةٌ قدسيةٌ ***وعلى الأعادي صيحة الإزهاقِ
هذا هو القرآن للثقلين منْ *** إنسٍ وجنٍّ، للقيامة باقِ
فلتلزموه وتعملوا بخصاله*** كي تسعدوا يا إخوتي ورفاقي
المصادر:
-تفسير أبي السعود 5/ 154
-البرهان في علوم القرآن 4/31 و 3/4
-الكشاف للزمخشري 2/187 و1/571
-كشف المعاني في المتشابه من المثاني لابن جماعة ص 241
- معاني القرآن للفراء 2/21
- تفسير الفخر الرازي 3/ 365 و 4/ 152 .
-تفسير اللباب في علوم الكتاب 13/588