الاثنين، 14 أكتوبر 2013

من لا يدرس التاريخ يسخر منه التاريخ

من لا يدرس التاريخ يسخر منه التاريخ:
مما يحير فلاسفة هذا الساخر ممن لا يدرسه(التاريخ)، ما ينشأ عن العلّة التافهة من نتائج عظيمة.
وإن كان هناك معنىً يمكن أن يُفهَم منه شيءٌ من الصلة بين تافه العِلل وجَسامة الأحداث،فأظن أنه يتمثل في ضعف اعتبار الواقع.
لعشرات السنين كانوا يقولون: إن النعامة إذا أحسّت بالخطر فإنها تدسّ رأسها في التراب، ولقد ظلتْ هذه المقولة زمناً يُتَمَثل به كل مَن رأى ما يستدعي مقولة النعامة والتراب.
وجاء علم الحيوانات وطبائعها ليرفع الظلم عن النعامة، وأبان أنها إنما تفعل ذلك لا لتتخفى كما يظنه المغفلون، إنما تفعل ذلك لتسمع وقع العدوّ فنحدد مسافة الخطر القادم ، لترسم خطة الهروب الكبير من عدوها بأي اتجاه بأي سرعة تنبغي.
وما بالك بالذي يزور التاريخ لمصلحة شخصية يقضي بها مآربه الخسيسية من اجل منصب أو بلوغ جاه أو حفنة من مال.
كثير ممن رفضوا الدين واحتكام الشريعة عمدوا للتاريخ الإسلامي تشويها وتزويرا وانتقاصا واحتقارا.
وما هذا بالباحث المعتدل ، ولكن طبعهم في نيل رضى أعداء الإسلام جعلهم يسلكون هذا المسلك الشائن.
قال بدوي الجبل:
يا مكرم الغرباء و العربي محتقر  مهان
تاريخ قومي في يديك يدان حسبك ما يدان
زوّرته وسطا على الأقداس أرعن ألعبان
ما عفّ في الموتى هواه و لا الضمير و لا اللّسان
يا عبقري الظّلم فيه لك ابتداع و افتنان
 إن دراسة التاريخ  للاستفادة منه في الحياة والأحياء، والإفادة منه في المعاش والمعاد، ودراسة التاريخ تكون على وعي وتقبل ومعرفة الواقع وما كان وملابساته، وبمعنى آخر هو النظر للتاريخ من واقع صورة كبيرة بتفاصيلها وزواياها، هكذا نستفيد من التاريخ.
فقد قص القرآن علينا أحداثا تاريخية،أبرز فيها مواطن العبرات ومعالم العظات (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب).
وقد شرع العرب في تدوين الحوادث التاريخية في القرن الأول الهجري:
فقد دوَّن أبو مخنف الأزدي من أصحاب الإمام علي فصولا من أحداث التاريخ، وكذلك فعل سيف بن عمر، وكذا الواقدي،وسواهم.
كما أن عَبيد بن شَريَة الجرهمي كان يحدث معاوية بأحداث الأمم السابقة، فأمره أن يُدوِّنها فَدَوَّنها في كتاب الملوك وأخبار الماضين.
كما  أنبأنا ابن النديم في كتابه الفهرست عن العلماء الذين أَلَّفوا في التاريخ وكتبهم وأسمائها.
ولم يكتف المؤرخون العرب بتدوين الأحداث العامة بل  تخصصوا فمنهم من ألف في السيرة النبوية وآخر في الصخابة وثالث في المغازي النبوية.
ثم ظهرت كتب الطبقات المختلفة التي تحكي عن العلماء باختلاف أنواعهم أو طبقات مخصوصة لنوع من العلماء كطبقات المفسرين أو المحدثين أو القراء أو الأطباء أو الفلاسفة وغير ذلك.
قال المؤرخ الشيخ محمد بن شاكر الكتبي في مقدمة كتاب فوات الوفيات:
علم التاريخ مرآة الزمان لمن تدبر، ومشكاة أنوار يَطَّلِع بها على تجارب الأمم مَن أمعن النظر والتفكير.
قال جبران خليل جبران:
راع تخير خطة فغدا بها ** ومثاله بين الرعاة فريد  
علامة بحاثة متضلع ** من دأبه التصويب والتسديد
في كتبه للعرب تاريخ به ** يجلى العتيد ولا يغيب عهيد
وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري في مقدمة الأعلام الشرقية :
إنما يكتب التاريخ بالتراجم، والمترجمون هم حياة التاريخ، وهم الذين صاغوه بعملهم وخلقهم وصوابهم وخطئهم....
أما العودة للتاريخ للتغني به والتمثل بالقول دون عمل، وبالتفاخر به وواقعنا هو ذل وخضوع وبؤس وتعاسة ، فهذا من السذاجة والحمق ما لا يُوصف.
ومن يستطيع أن يفسر لنا ما نحن فيه تفسيرا علميا يدفع به عنا تُهمَة العجز والجهل؟
قال محمد إقبال:
أمة قد نسيت سيرتها ** ينسخ الدهر غماً آيتها
أنتِ سفر كتبته السيرة ** خيطه أيامك الموصولة
ثوبنا أيامنا في الزمن ** وخياط الثوب حفظ السنن
ما ترى يا غر تاريخ البشر ** قصة أسطورة لهو سمر

في سناه أنت بالنفس بصير ** في هداه أنت بالسير خبير
المصدر:
*مقدمة كتاب فوات الوفيات.
* موسوعة الحيوانات والطيور.
*مقدمة كتاب الأعلام الشرقية.
*ديوان بدوي الجبل .
*ديوان محمد إقبال.
*ديوان جبران خليل جبران.

الأحد، 13 أكتوبر 2013

الثورة على بؤس الطين

الثورة على بؤس الطين:
قال كامو :
لم يكن الفقرُ نكبةً بالنسبة لي، فقد كان يوازيه دائما غن النور،حتى ثوراتي كانت آنذاك تُضاء بهذا النور
لستُ أجزمُ أن قلب كان من طبعه أن يميل إلى هذا النوع من الحب، غير أن الظروف ساعدتني فوضعتني في منتصف الطريق بين الفقر والشمس
أما الفقر: فمنع عني الحكم بأن كل ما في العالم هو على ما يرام.
وأما الشمس فعلمتني أن التاريخ هو كل شيء.
إن الثورة على بؤس الطين ، ذلك ما يدعى بتوثب الروح للشخصية النامية في مفاصل حياتها الكبرى، فتسيطر الروح على مطالب الجسد وتنظمه وتربيه وتهذبه كيلا يقع في مهاوي شهواته ولا يتردى في مهالك نزواته.
وقد عرفنا عواقب سيطرة الجسد ونزواته وشهواته على ممن حوله، فإذا به يعيث فساداً، وينشر الخراب والدمارَ، ويرمي بنيران التفرق وسهام التمزق في جسد المجتمع فيجعله رملا منثورا وماءا آسنا ومِزقا ممزقا.
ليس عليك إلا أن تنظر للمجتمعات التي أقصت الروح من حضارتها كيف حالها الاجتماعية وكيف مردها المتهاوي.
الأمراض الجنسية كثيرة، وحالات الانتحار بمعدلات عالية جدا وأين في أرقى بلاد الغرب حيث كل شيء مُؤَمَّن للفرد جسديا من راتب وتعويض وراحة ووووو، كالسويد وسويسرا ، إلا أن حاجات الروح خاوية على عروشها ومظلمة في أنحائها وقاحلة في أرجائها، فكان ما كان .
هذه لمحة عما يجري هناك ، ولا أعني أن أخذ حاجات الروح هو الدواء الناجع،لا،لأن الاكتفاء به يجر على المجتمع بلاء الكسل والشعوذة والدجل والتخلف.
إن العلاج هو قيام متطلبات الروح والجسد معا، على النحو الصحيح والوجه الحقيقي والنسبة والتناسب المعتدل، فلا يطغى جانب على آخر، ولا يطيش جانب على حساب الآخر.
وهذا ما دعا له الإسلام من خلال قول الله تعالى:
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وجاءت تعاليم الشرعية الإسلامية لتهذب الأخلاق وتنظم المجتمع :
فقد اعترف بحاجة الإنسان لإشباع شهوته الجنسية ، فهذبها بالزواج الشرعي ، وحرم  الاتصال الجنسي غير الشرعي كالزنا واللواط ..
قال رسول الله : من استطاع منكم الباءة فليتزوج.
وفي المقابل قال الله تعالى : (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا).
واعترف الإسلام بحاجة الإنسان للمال ليزاول عمله، فأحلَّ البيع القائم على الرضا دون غش وخداع وحرَّم الربا الذي يظلم المشتري وينشر الحقد والبغض ويستنزف المال من غير وجه حق.
(وقالوا إنما البيع مثل الربا ،وأحل الله البيع وحرم الربا).
وغيرها الكثير.
ولو أن العلمانيين ينظرون للإسلام وتعالميه وشريعته نظرة منصف من غير تعصب وحقد، ولو أنهم ينظرون له كما ينظرون للغرب، لوجدوا الخير في الإسلام وشرعيته، ولتبنوه ودافعوا عنه، ولكن ما العمل وقد أصبحوا دمى متحركة بأيدي أعداء العرب والإسلام يهدمون بيوتهم بأيدهم ويسعون لجعل أوطانهم ذيولا متعلقة بالغرب.
قال الشاعر أحمد محرم :
أَعِدِ البناءَ وجددِ الميثاقا *** وخُذِ السبيلَ مُبَادِراً سبَّاقا
جَدَّ النضالُ ومن ورائك فتيةً***تَهبُ النفوسَ وتَبذلُ الأعلاقا
عَقدتْ بآيات الكتابِ عُهودها*** فاعقدْ عليها مِن سَناهُ  نطاقا
إنْ كنتَ يوماً بانياً ومُجنِّداً ***فَايْنِ العُقولَ وجنِّدِ الأخلاقا
وقال مصطفى صادق الرافعي:
أرى العلماء إذ يشقون فينا*** نِعما كامناً تحت العذاب
كقطعة سكر في كأس بُنٍ*** تذوب ليغتدي حلو الشراب
ومن اخذ العلوم بغير خُلُقٍ*** فقد وجد الجمال بغير سابي
وما معنى الهضاب وأنت تدري*** بأن العيبَ من تحت الخضاب
إذا الأخلاق بعد العلم ساءت*** فكل الجهل في فصل وباب
ولولا العلم لم تسكن نفوس*** على غَيِّ الحياة إلى الصواب
ولولا الدين كانت كل نفس*** كمثل الوحش تسكن الموثاب
رأيت الدين والأرواح فينا*** كما صحب الغريب أخا اغتراب
فلا روح بلا دين ومَن ذا*** رأى راحاً تصب بلا حباب
ليجحد  من يشاء فرب قشر*** يكون من وراءه عجب اللباب
ولله المآب فكيف يعمى*** أخو الأسفار عن طرق المآب
  المصدر:
- ميراث الصمت والملكوت.
- ديوان أحمد محرم.
- ديوان مصطفى صادق الرافعي.

الفكر حين يتحول إلى قوة تاريخية

الفكر حين يتحول إلى قوة تاريخية:
قال الطرابيشي:
إنني أنتمي إلى جيل الرهانات الخاسرة، فجيلنا قد راهن على القومية، وعلى الثورة ، وعلى الاشتراكية، وهو يراهن اليوم على الديموقراطية،لا لقيم ذاتية في هذه المفاهيم؛ بل كمطايا إلى النهوض العربي وإل تجاوز الفَوات الحضاري.
في قصة الحضارة لول ديورانت:
أن إمرأة تدعى نينوندلّانكلو عاشت في عصر لويس الرابع عشر 1643-1715 حياة فاضحة متهتكة،إلا أن تلك الحياة لم تمنعها من أن تلتقط قدرا من المعرفة لا يُستهان به،وأن تفتح صالونا أدبيا تقاطر عليه أربابُ الأدب والفن والسياسة، حتى أذهلت باريس كلَّها بما أبدتْ من ذكاء ومعرفة، بل إنها أثارت فضول الملك نفسه فاستمع إليها في قصره من وراء ستار.
 عُمِّرت نينون بعد أصدقائها كلهم تقريبا، فلم دنى موتها تنافس اليسوعيون والجانسيون على هدايتها، فاستسلمت لهم في لطف وماتت في أحضان الكنيسة.
لم تترك في وصيتها على ما بلغته من ثراء سوى مال يسير لجنازتها حتى تكون أبسط ما يستطاع، ولكنها كتبت:
أطلب في تواضع إلى المسيو لارويه-وكان وكيلها- أن يسمح لي بأن أترك لابنه الذي يتلقى العلم عند اليسوعين ألأف فرنك ليشتري بها كتبا.
قال ديورانت:واشترى الابن الكتبَ وقرأها، وأصبح (فولتير).
  إن التجربة الغربية تحدٍّ حضاري حافز، وليت مثلا أعلى أغلقته صيرورة التاريخ.
إن لم نقل بذلك فإن الموقف الحضاري سيجعلنا بشراً من الدرجة الثالثة بشكل دائم،وإن حثثنا الخطى أصبحنا بشراً من الدرجة الثانية.
وكلما تابعنا العلم والمعرفة بجد واجتهاد وتخلصنا من أثقال الاستبداد وتفرق الكلمة كلما اقتربنا من سباق الأمم لنكون في الطليعة لا في آخر الآخرين.
ولو كفَّ بعض المثقفين والأدباء والعلماء على حضّ الأمة لتكون مقلدة للغرب ونسخة أخرى منه، ولو توقف هؤلاء الرعناء عن تحطيم عقل العربي والمسلم وتمزيق دينه وتلوبث تاريخه وتقيده بعجلة الغرب وتطويقه به، لكان هناك متسع للنهوض والسير قدما في ركب الحضارة الخاصة بنا المتمثلة فينا ومنا لا من الغرب الذي سيظل غرباً والشرق الذي سيظل شرقاً.
في شهر نيسان /أبريل، من عام1930م عُقِدَتْ في الجامعة المصرية مناظرةٌ بين عباس محمود العقاد وسلامةموسى بشأن بيت الشاعر الإنجليزي رديارد كبلنغ القائل فيه: الشرق شرق والغربغرب، ولن يلتقي الإثنان، وقد أيّد العقاد رأيَ كبلنغ زنال 228 صوتا، في حين عارضه سلمة موسى ونال 132 صوتا.
لم يفهم العلمانيون ومن تابعهم أنه لا يمكن أن يجتمع الغرب والشرق في ظروف الاستعلاء والاستكبار والاستغلال من الغرب، والخنوع والخضوع والذلة والخوف والأمية والتراجع من الشرق، وبين هذا وذاك يلعب الدين المسيحي واليهودي والإسلامي في التعبئة والتوجيه، ذلك لأن صراع الشرق والغرب هو في المقام الأول صراع عقائدي وديني وإن أنكر البعض أو أظهر أن الدين لا علاقة له بذلك.
لن ننطلق في ركب الحياة على هذه الأرض، ولن نمزق الخوف من قلوبنا، ولن نكسر قيود الاستعباد والاستخذاء، حتى  نأخذ بما أخذ به الأولون من الشجاعة واقتحام المخاطرة ودفن المصلحة الشخصية لمصلحة الأمة، والانكباب على العلم والمعرفة والاغتراف منهما، واحترام الآراء ، وأخذ ما يستفاد من الأمم الأخرى دون ما يؤثر على ديننا وعلى عاداتنا ،وتربية الأجيال على كمال القوة في كمال الرقة بوجود الحكمة والتخلق بالأخلاق الفاضلة، مع الاعتزاز بالدين الاسلامي والدفاع عنه وعن اللغة العربية،وإيقاد الإيمان بأركانه والإسلام بما فيه في القلوب والنفوس والأفكار.
بمثل هذه العدة والأسباب هي التي تأخذنا إلى النصر في مجالات العلم ومناحي المعرفة، وهذه وتلك تعطي دفقا كبيرا للمسير في ركب الحضارة بل تجاوزهم بمراحل متعددة.
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)
وقال المتنبي:
إذا غامرت في أمر مروم *** فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير***كطعم الموت في أمر عظيم.
 وقال أبو القاسم الشابي:
سرْ مع الدهر، لا تَصُدَّنَكَ الأهوالُ أو تُفزِعَنَّك الأحداثُ
سِرْ مع الدهر، كيفما شاءَت الدنيا ولا يَخْدَعَّنَكَ النَّفَّاثُ
فالذي يُرهِب الحياةَ شقيٌّ سَخِرَتْ من مصيره الأجداثُ
المصدر:
قصة الحضارة ول ديورانت 31/48 بتصرف واختصار.
رحلتي الفكرية، عبد الوهاب المسيري ص452.
النزعة العلمية في الفكر العربي الحديث،نبيل عبد الجبار،ص 223.

ديوان المتنبي وديوان أبو القاسم الشابي.

الثلاثاء، 8 أكتوبر 2013

القدر سر الله

القدر سر الله

في مسألة القدر تفرق الناس إلى ثلاث طوائف أو فرق؛ ثنتان ضلت عن الطريق المستقيم، وواحدة هداها الله لإصابة الحق.
فالمجبرة ومنهم الجهمية غلت في ذلك وقالت إن العباد مجبورون على أعمالهم وأن الله جبرهم على ذلك، وأنهم لا قدرة لهم ولا اختيار.
والفرقة الثانية: هم القدرية المجوسية ومنهم المعتزلة الذين قالوا بأن الإنسان خالق لأفعاله، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر. وهم سلكوا هذا المسلك لكي لا يقولوا شاء الله الكفر من الكافر، فوقعوا في شر مما فروا منه، فعلى قولهم هذا يلزم منه أن مشيئة الكافر غلبت مشيئةالله!.
والقول الحق قول السلف أهل السنة والجماعة: أن كل شيء بقضاء الله وقدره،خيره وشره، وحلوه ومره، وأن العباد لهم قدرة ومشيئة ولكنها تابعة لمشيئة الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
يقرر هذا أبو محمد ابن قدامة المقدسي بقوله:
( من صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد، 

لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته،
 وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن المقدور، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور،
 أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعا لأطاعوه، خلق الخلائق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته... 
ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه،
 بل يجب أن نؤمن أن لله الحجة علينا بإنزال الكتب وبعثة الرسل،
 قال الله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (النساء: 165)،
 ونعلم أن الله ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك،وأنه لم يجبر أحدا على معصيته، ولا اضطره إلى ترك طاعة، قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا} (البقرة: 286)، وقال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن: 16)، وقال تعالى: {اليوم تجزئ كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم} (غافر: 17)، فدل على أن للعبد فعلا وكسبا، يجزئ على حسنه بالثواب، وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء اللهوقدره). أهـ.
وينبغي أن يعلم أنه لا ينبغي التعمق والخوض في أسرار القدر، والسلف رحمهم الله كانوا ينهون عن ذلك. 

يقول الطحاوي في عقيدته:
(وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل. والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان،

 فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة،
 فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه،
 كما قال تعالى في كتابه: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (الأنبياء: 23). فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين) .

المصدر:
قول ابن قدامة منقول من كتاب القضاء والقدر، للشيخ عبد الرحمن المحمود، ص 257، والطحاوي من شرح عقيدته لابن أبي العز 1/320

تدافع الفتوى

تدافع الفتوى

التصدر للفتيا في سن مبكرة وقبل التأهل لذلك مزلق خطر، وشرر مستطر، يوقع صاحبه في مهاوي الردى - نسأل الله السلامة والعافية.

وكثير من مجالس الشببة فيها من أمثال هذا النوع، بل إن منهم من يفتي بالنوازل!
وقد يفتي بأمر لو نزل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لجمع له أهل بدر!!
ولكن هو حب الرياسة، وحب الظهور، وحب الشهرة، ولن يغني ذلك عنه من الله شيئا. وتدافع الفتوى مسلك غلب على أئمة الدين، فكل واحد منهم يود لو أن أخاه كفاه، وفي عصورنا المتأخرة ظهر عكس تدافع الفتوى، وهو التهافت على الفتوى. وإليك بعض أخبار سلفنا الصالح في ذلك:
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -أراه قال : في المسجد- فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
وعن معاوية بن أبي عياش، أنه كان جالسا عند عبد الله بن الزبير، وعاصم ابن عمر. قال: فجاءهما محمد بن إياس بن البكير

 فقال: إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها. فماذا تريان؟ 
فقال عبد الله بن الزبير:
إن هذا الأمر ما لنا فيه قول، فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة فإنيتركتهما عند عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فسلهم، ثم ائتنا فأخبرنا. 
فذهب فسألهما،
 فقال ابن عباس لأبي هريرة:
 أفته يا أبا هريرة، فقد جاءتك معضلة. 
فقال أبو هريرة: الواحد تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره.
وقال سحنون: إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب حتى أتخير، فلم ألام على حبسي الجواب؟
وعن سفيان بن عيينة قال: 

أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما.
وقال ابن وهب: وأخبرنا موسى بن علي أنه سأل ابن شهاب عن شيء،
فقال ابن شهاب: ما سمعت فيه بشيء وما نزل بنا.
وعن محمد بن سيرين قال:

قال حذيفة:
 إنما يفتي الناس أحد ثلاثة:
 رجل يعلم ناسخ القرآن ومنسوخه، 
وأمير لا يجد بدا،
 وأحمق متكلف.
 قال ابن سيرين: فأنا لست بأحد هذين، وأرجو أن لا أكون أحمق متكلفا.

المصدر:
جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 354- 356.

الاثنين، 7 أكتوبر 2013

العوامل التي أحدثت أَبْيَنَ الأثَر في انبعاث حركة الآداب والعلوم والفنون وتقدمها السريع في العالم الإسلامي

العوامل التي أحدثت أَبْيَنَ الأثَر في انبعاث حركة الآداب والعلوم والفنون وتقدمها السريع في العالم الإسلامي :
العوامل التي أحدثت أَبْيَنَ الأثَر في انبعاث حركة الآداب والعلوم والفنون وتقدمها السريع في العالم الإسلامي القديم منذ القرن الأول للهجرة النبوية وما تلاه من قرون عصر الازدهار:
يُمكن إجمال هذه العوامل فيما يلي:
1 – حيوية الدين الجديد وحثُّه على مداومة النَّظر ف الكتاب والسنة، وتدبر آيات الكون لاستنباط الأحكام، وتقويم الأخلاق،وتنظيم المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
 والناظر للقرآن الكريم يستطيع من خلال تصفحه أن يجد ذلك مبثوثا في آياته ، فمن ذلك قوله تعالى:
(قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
وقوله (الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض)
 وقوله ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت*وإلى السماء كيف رفعت* وإلى الأرض كيف سطحت) .
وفي الأحاديث النبوية جم غفير من الأحاديث التي تدعو للتعلم والتفكر والتدبر، من ذلك :
طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
وقوله: تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذاته، فإنكم لن تقدروا.
وقوله: لا عبادة كالتفكر ، تفكر ساعة خير من عبادة ستين عاماً.
وسواه الكثير.
2- اتساع رقعة العالم الإسلامي بفضل الفتوحات وتنظيم نشر الدعوة، وما ترتب على ذلك من اختلاط الشعوب وانتقال الناس والأفكار والثقافات بين أطراف الدولة أقطارها.
وكان لهذا الاتساع فائدته التي قامت عليها حضارة العالم الإسلامي من الاطلاع على العلوم لدى الأمم الأخرى كاليونان والرومان والهند والصين والفرس،وتعامل العلماء مع هذه العلوم من ترجمة وشرح ونقد وإضافات واكتشافات جديدة أسهمت في تقدم الحضارة الإسلامية .
وإن كان وقف لمثل هذه العلوم فئات من العلماء حصروا عقولهم على نمط معين ولم يتقبلوا الوافد من العلوم لأسباب أو أخرى، فهؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم لوجود الكثير من العلماء ممن دعم هذه العلوم ونشرها واستفاد منها المجتمع الإسلامي.
3- تطلع صفوة أهل العلم وطلابه إلى معرفة ثقافات الشعوب الأخرى من طريق ترجمة المؤلفات المنقولة إلى العربية وتمحيصها وتفسير غامضها وفكِّ رموزها واستخلاص فوائدها بعد عرضها على أصول الشريعة الإسلامية بقصد التوفيق والتقريب بين ضرورات النقل وجولات العقل.
ومن هؤلاء أعظم الفلاسفة وأكبرهم وهو ابن رشد الذي ساهم مساهمة فعالة في التقدم الفكري والرقي العقلي .
4-مرونة اللغة التي ظهرت في قدرتها المبكرة والمبتكرة على استيعاب الثقافات الأجنبية ومجاراة حركة الآداب والعلوم والفنون والاستجابة لمقتضيات التطور بإصلاح الكتابة وتقعيد أصول النحو والصرف والبلاغة والبيان وتجميع أشتات اللغة، وإيداعها في المعاجم والمجموعات اللغوية مع شرحها وضبط معانيها ومبانيها.
ولم تكن اللغة العربية في يوم من الأيام عائقا أمام التقدم والتطور بل كانت مسايرة وسباقة ومرنة، ووجود المصطلحات المختلفة التي عربت أو التي استعربت في لغتنا دليل على ذلك، وإن كان في الأزمنة الأخيرة توقفت عن مواكبة التطور فهذا ليس خطؤها بل خطأ العلماء المتعصبة الذين انحصروا في بوتقة التزمت والتشبث وعدم قبول الوافد الجديد.
 5- اتساع رقعة الدولةِ وتَشّعُّبِ نُظُمِهَا السياسية والاقتصادية والإدارية، ورغبةُ الخلفاء والولاة في ضبط هذه النُّظُم وتوطيد دعائم الدولة والاعتماد على العلماء وأصحابِ النظر في شؤون المال ووصْف البلدان وأحوال الأقاليم ومسالك القوافل التجارية وتنظيم موارد الأرزاق والأموال والمنتوجات الزراعية والصناعية.
  والذي يقرأ كتب التاريخ وكتب الإدارة والسياسية والنظم العربية الإسلامية في التاريخ الإسلامي فسيرى ذلك واضحا بينا، مثل كتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشا، وكتب الفقه الإسلامي في أبواب المعاملات والزواج والقضاء وكتاب الخراج وغير ذلك ...

إن الأثر الذي أحدثَتُه العواملُ المذكورة في طفرة العلوم والآداب والفنون المختلفة

 المتنوعة المتعددة يدلُّ عليه العديد الكبير من المؤلفات الموضوعة والمُترجَمة، وما 

عَرَفَتْهُ الحواضر الإسلامية من تعدد مجالس العلم وتنوع المناظرات واختلاف 

الآراء، وتحرُّك الهِمم إلى طلب العلوم وارتياد مصادرها وركوب مشاقّ السفر من 

أجلها، وحرص عدد من رجال الدولة على تشجيع حركة العلوم والمعارف والمبادرة 

إلى إثارتها وتوسيعها، ببذل الأموال للعلماء ولطلبة العلم وفتح المدارس والمكتبات 

والوقف عليها، والطلب من العلماء الكتابة في مواضيع معينة، وتشجيع الابتكار 

والاختراع والابداع في كافة المجالات، فكانت الأمة الإسلامية كخلية النحل لا تكف 

عن العمل والابداع و عن العلم والمعرفة ونشرهما.

التوازن الروحي والمادي وأهميته

التوازن الروحي والمادي وأهميته:
إن الناس في عصرنا هذا كثيرا ما تصيبهم الحيرةُ والشك والقلقُ وهم يَرون أن الفتوحات العلمية الطاغية والاختيارات الماديةَ المتاحةَ لا تكفي وحدَها لمواجهة صعوبات الحياة اليومية والتغلب عليها لكسْب الطمأنينة النفسية، بل لا بدَّ مع ذلك من الاهتمام الرشيد بتنمية القيم الخلقية المثلى وترسيخها  من أجل إِحداثِ التوازن الروحي والمادي الذي لا تكتمل سعادة الإنسان إلا به .
وقد وهبَ الخالقُ الإنسانَ العقلَ والمشاعرَ لا لتنمية معارفه العلمية ومهاراته المعاشية فحسْب، بل لتقويم سلوكه وتحسين أخلاقه بصورة تُتيح لكل فرد نصيبَه من الطمأنينة والعدل والحرية والكرامة، وهي قيمٌ ومزايا يفتقر إليها الجم الغفير من بني البشر في عصرنا هذا، فلا يكادون يجدون السبيلَ القويم للوصول إليها والاستمتاع بخيراتها.
ولا شك في أن هذا التوازن الذي أشرنا إليه هو الحدُّ المشترك بين جميع العصور والأجيال، بل هو مطلبُ الإنسانية الدائم وضالتُها المنشودة في كلّ زمان ومكان.
ومن هنا تبدو أهمية التوازن في وقت تتحسَّسُ الشعوب العربية والإسلامية موقعها من التقدم الإنساني المذهل في جميع ميادين العلم والفكر والحضارة ، ويُريدُ مُفكروها وعلمائها انتهاج السُّبل المؤدية إلى المشاركة الرشيدة والفعالة في هذا التقدم من غير أن تفقد روحَها ومقوماتها الأساسية.
ومن أهم الأسباب التي أدّت إلى تعثر النهضة في البلاد العربية والإسلامية هو عدم وجود التوازن الروحي والمادي في بناء الإنسان والعمران، لقيام الناهضين بمحاربة الروح ومتطلباتها وإقصاء الدين والسخرية به ومحاربة الشريعة ومقارعتها.
وفي الطرف الآخر قيام الناهضين من المتحمسين للدين على اتباع نهج الاقصاء والتضليل والتكفير والتفسيق والتحريم لما أحله الله .
فكان كلا الطرفين في موضع خاطئ وموقف غير سليم، مما أدى بمسيرة التقدم إلى التعثر والرجوع للوراء .
إن عدم وجود التوازن أدّى لما نحن عليه من آلام ومواجع وتحمل عواقب هذا التفكير الخاطئ بعدم التوازن المادي والروحي وسياسة الإقصاء والتهميش والتخوين والاستبداد.
ويكمن الحل في مراجعة المواقف والسياسات القائمة على إقصاء الآخر وإهانته وظلمه، والقائمة على النظر للأمور بمنظار واحد على زاوية واحدة بعين واحدة دون الاهتمام بالصورة الكبيرة ككل وكأجزاء مترابطة متراصة متسقة.
هذه المراجعة تحتم على القائمين والرائدين في مسيرة الأمة وتقدمها تحتم عليهم العمل على قيام التوازن المادي والروحي للنهضة العربية والإسلامية ومسيرتها الجماعية والفردية في الإبداع والابتكار والاختراع.

والله تعالى يقول:
(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)
(ربنا آتنا في الدنيا حسنة،وفي الآخرة حسنة )
وقال الإمام علي رضي الله عنه وعليه السلام وكرَّم الله وجهه:
[اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً].
وما أجمل قول الشاعر المتنبي :

ووضعُ النَّدى في مَوضِعِ السَّيفِ مُضِرٌّ ***بالعُلا كَوَضْع السِّيفِ فِي موضِعِ النّدَى.