الفرق بين (الأجر) و(الجزاء) في القرآن الكريم :
المسلم مطالب بتدبر القرآن الكريم قراءة وتلاوة، وجعله الله ميسرا للناس فقال: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر).
وقد حبا الله تعالى المؤمن قلبا ينبض بالرجاء ويتطلع إلى النور ويرنو إلى المحبة، ويتأتى ذلك بملازمة أحب الأمور إلى الله وهو قراءة القرآن الكريم قراءة متأنية وتلاوة متدبرة، يقف بها المسلم على معاني الآيات القآنية ويستنبط منها ما ينفعه في أمور دينه ودنياه وآخرته.
ويحافظ المسلم على أوقات يجعلها لتلاوة القرآن وتعلمه وتدبره وتعليمه لأهله وأقاربه وأصدقائه وأولاده، فينشر العلم الصحيح المصحوب بمحبة الله المقترن بإنماء عظمة الله وقدرته في القلوب، فيزداد الذين آمنوا إيمانا، ويخرج من قلوب البعض الريب والشك.
ومن سبل ذلك هو أن يعرف المسلم بلاغة القرآن الكريم وما فيه من معان عالية الرتبة وألفاظ يخضع لها البلغاء ويخنع أمامها أعظم الخطباء.
والقارئ للقرآن الكريم يلحظ هذا في أثناء تلاوته لآيات الله المباركات.
ومن ذلك الفرق بين (الأجر) و(الجزاء) في القرآن الكريم :
الأجر: ما يعود من ثواب العمل دنيا وآخرة (إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله).
والأجر يقال فيما كان عن عقد ولا يقال إلا في النفع دون الضرر (لهم أجرهم عند ربهم )(فأجره على الله).
أما الجزاء: فيقال فيما كان عن عقد وغير عقد، ويقال في النافع والضار (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا)(فجزاؤه جهنم).
وتوضيح ذلك:
إن الأجر ما يعود من ثواب العمل دنيا وآخرة (إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله).
والأجر يقال فيما كان عن عقد ولا يقال إلا في النفع دون الضرر (لهم أجرهم عند ربهم )(فأجره على الله).
وجملة : إن أجري إلا على الله ( تعميم لنفي تطلبه أجراً على دعوتهم سواء منهم أم من غيرهم ، فالقصر حقيقي وبه يحصل تأكيد جملة : ( فما سألتكم من أجر ) مع زيادة التعميم . وطريقُ جزمه بأن الله يؤجره على ذلك هو وعد الله إياه به بما أوحى إليه .
وأتى بحرف ( على ) المفيد لكونه حقاً له عند الله بناء على وعد الله إيَّاه وأعلمه بأن الله لا يخلف وعده ، فصار بالوعد حقاً على الله التزم الله به وذاك يقتضي أنه حق الله وذلك بالنظر إلى وَعده الصادق.
وجيء بالشرط (إِنْ)بصيغة الماضي ليدلّ على انتفاء ذلك في الماضي فيكون انتفاؤه في المستقبل أجدر ؛ على أن وقوعه في سياق الشرط يقضي بانتفائه في المستقبل أيضاً . وهذا جار مجرَى التحدِّي لأنه لو كان لجماعتهم أو آحادهم علم بأنه طلب أجراً منهم لجَارُوا حين هذا التحدّي بمكافحته وطالبوه بردّه عليهم .
و(إن أجْري إلاّ على الله ) احتراس لأنه لمّا نفى أن يسألهم مالاً ، والمال أجر ، نشأ توهّم أنه لا يسأل جَزاء على الدعوة فجاء بجملة ( إن أجْري إلاّ على الله ) احتراساً .
والمخالفة بين العبارتين في قوله : ( مالا ( و ) أجري ( تفيد أنه لا يسأل من الله مالاً ولكنه يسأل ثواباً .
وقول الرسول :
{ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله } [ هود : 29 ] .
هو قول يدل على أن الأمر الذي جاء به الرسول هو أمر نافع؛ لأن الأجرة لا تستحق إلا مقابل المنفعة .
ونحن نعلم أن مبادلة الشيء بعينه أو ما يساويه؛ تُسمَّى شراء ، أما أن يأخذ الإنسان المنفعة من العين ، وتظل العين ملكاً لصاحبها ، فمن يأخذ هذه المنفعة يدفع عنها إيجاراً ، فكان نوحاً عليه السلام يقول : لقد كنت أستحق أجراً لأنني أقدِّم لكم منفعة ، لكنني لن آخذ منكم شيئاً ، لا زُهْداً في الأجر ، ولكني أطمع في الأجر ممن هو أفضل منكم وأعظم وأكبر .
وهو هنا يُعلِي الأجر ، فبدلاً من أن يأخذ الأجر من محدود القدرة على الدَّفْع ، فهو يطلبها من الذي لا تُحَدّ قدرته في إعطاء الأجر؛ فكأن العمل الذي يقوم به لا يمكن أن يُجَازى عليه إلا من الله؛ لأن العمل الذي يؤديه بمنهج الله ومن الله ، فلا يمكن إلا أن يكون الأجر عليه من أحد غير الله .
وكأن المسلم ينبغي عليه أن يعمل العمل ، لا لمن يعمل له ، ولكن يعمله لله ليأخذ عليه الأجر الذي يناسب هذا العمل من يده تعالى ، إنما إنْ أخذه من صاحبه فهو كالذي « فعل ليقال وقد قيل » وانتهتْ المسألة ، وربما حتى لا يُشكر على عمله .
لذلك وردتْ هذه العبارة على ألسنة كل الرسل : { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } [ الشعراء : 109 ] وليس هناك آية طلب فيها الأجر الظاهر إلا هذه الآية التي نحن بصددها : { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الفرقان : 57 ] .
وقوله تعالى : { إِلاَّ المودة فِي القربى } [ الشورى : 23 ] .
ومعنى : { إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الفرقان : 57 ] أي : سبيلاً للمثوبة ، وسبيلاً للأجر من جهاد في سبيل الله ، أو صدقة على الفقراء . . إلخ .
وقوله : { إِلاَّ مَن شَآءَ } [ الفرقان : 57 ] تدل على التخيير في دَفْع الأجر ، فالرسول لا يأخذ إلا طواعية ، والأجر : { أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الفرقان : 57 ] من الجهاد والعمل الصالح ، فكأن أجر الرسول العمل للغير ، لتأخذ أنت الأجر من الله ، فالرسول لا يأخذ شيئاً لنفسه .
ونلحظ في آيات الأَجْر أنها جاءت مرة { أَجْراً } [ الأنعام : 90 ] ومرة { مِنْ أَجْرٍ } [ الفرقان : 57 ]
لماذا؟ لأنه سيعطيك ويُكافئك على قَدْره هو ، وبما يناسب جُودَه تعالى وكرمه الذي لا ينفد ، أما الإنسان فسيعطيك على قَدْره وفي حدود إمكاناته المحدودة .
و مَلْحظ آخر في هذه المسألة في سورة الشعراء، وهي أحفَلُ السُّور بذِكْر مسألة الأجر ، حيث تعرَّضَتْ لموكب الرسل ، فذكرت ثمانية هم : موسى وهارون وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب .
تلحظ أن كل هؤلاء الرسل قالوا : { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 109 ] عدا إبراهيم وموسى عليهما السلام لم يقولا هذه الكلمة ، لماذا؟
قالوا : لأنك حين تطلب أجراً على عمل قمتَ به لا يكون هناك ما يُوجب عليك أنْ تعمل له مجاناً ، فأنت لا تتقاضى أجراً إنْ عملتَ مثلاً مجاملةً لصديق ، وكذلك إبراهيم عليه السلام أول ما دعا إلى الإيمان دعا عمه آزر ، ومثل هذا لا يطلب منه أجراً ، وموسى عليه السلام أول ما دعا دعا فرعون الذي احتضنه وربَّاه في بيته ، ولو طلب منه أجراً لقال له : أيّ أجر وقد ربَّيتك وو . . إلخ .
الآية الأخرى في الاستثناء هي قوله تعالى : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى } [ الشورى : 23 ] فكأن المودة في القربى أجر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على رسالته ، لكن أيُّ قُرْبى : قُرْبى النبي أم قُرْباكم؟
لا شكَّ أن النبي الذي يجعل حُبَّ القريب للقريب ورعايته له هو أجره ، يعني بالقُرْبى قُرْبى المسلمين جميعاً ، كما قال عنه ربُّه عَزَّ وجَلَّ : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ الأحزاب : 6 ] .
والله أعلم.
يَا رَبِّ أَكْرِمْ مَـنْ يَعيـشُ حَيَاتَـهُ****لِكِتَابِـكَ الوَضَّـاءِ لا يَتَـوَانـى
يَا مُنْزِلَ الوَحْـيِ الْمُبِيـنِ تَفَضُّـلاً***نَدْعُوكَ فَاقْبَلْ يَـا كَرِيـمُ دُعَانـا
اجْعِلْ كِتَابَـكَ بَيْنَنَـا نُـوراً لنـا***أَصْلِحْ بِهِ مَـا سَـاءَ مِـنْ دُنْيَانـا
واحْفَظْ بِهِ الأوطانَ، واجمعْ شملَنـا***فَالشَّمْلُ مُـزِّقَ، وَالْهَـوَى أَعْيَانـا
وانصُرْ بِهِ قَوْمـاً تَسِيـلُ دِمَاؤهُـمْ****فِي القُدْسِ.. في بَغْدادَ.. في لُبْنَانـا
وفي كل بلد إسلامي.
المصدر:
المفردات للراغب الأصفهاني ص 11
التحرير والتنوير 11/241
تفسير الشعراوي 1/ 4182 و 4496 و 6465
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق