الجمال في التعبير القرآني ( يابني أقم الصلاة) :
لا شـيء يسيطر على القلب مثل روعة البيان القرآني، فهو بسوره كَبُرَتْ أم صَغرَتْ وبآياته طالَتْ أم قَصُرَتْ، وبِجُمَلِهِ كَثُرَتْ أَمْ قَلَّتْ، وبألفاظه المتعددة المتنوعة، مادة غزيرة لتبعث حب الله في القلوب وتلهب الروح بعشق الله والشوق إلى لقائه ، وتعمل في الأعضاء الجسدية عما يُحركها للامتثال لأوامر الله والابتعاد عن مناهيه.
وهذا أثر جميل من آثار التفكر والتدبر في آيات القرآن الكريم وألفاظه وتعابيره.
وها نحن ذا نشاهد جمالا تعبيريا في قول الله سبحانه ( يابني أقم الصلاة) :
إن افتتاح الموعظة بنداء المخاطب الموعوظ مع أن توجيه الخطاب مغن عن ندائه لحضوره بالخطاب، فالنداء مستعمل مجازا في طلب حضور الذهن لوعي الكلام وذلك من الاهتمام بالغرض المسوق له الكلام.
إن افتتاح الموعظة بنداء المخاطب الموعوظ مع أن توجيه الخطاب مغن عن ندائه لحضوره بالخطاب، فالنداء مستعمل مجازا في طلب حضور الذهن لوعي الكلام وذلك من الاهتمام بالغرض المسوق له الكلام.
والنداء تنبيه للمنادى ليقبل على استماع الكلام ويجعل بالَه منه.
و {بُنَيَّ} تصغير "ابن" مضافا إلى ياء المتكلم فلذلك كسرت الياء.
والتصغير في {بُنَيَّ} لتنزيل المخاطب الكبير منزلة الصغير كناية عن الشفقة به والتحبب له، وهو في مقام الموعظة والنصيحة إيماء وكناية عن إمحاض النصح وحب الخير، ففيه حث على الامتثال للموعظة.
ولما منعه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بما يلزم من التوحيد وهو الصلاة وهي العبادة لوجه الله مخلصاً وبهذا يعلم أن الصلاة كانت في سائر الملل غير أن هيئاته اختلفت.
قد انتقل لقمان من تعليم ابنه أصول العقيدة إلى تعليمه أصول الأعمال الصالحة فابتدأها بإقامة الصلاة، والصلاة التوجه إلى الله بالخضوع والتسبيح والدعاء في أوقات معينة في الشريعة التي يدين بها لقمان، والصلاة عماد الأعمال لاشتمالها على الاعتراف بطاعة الله وطلب الاهتداء للعمل الصالح. وإقامة الصلاة إدامتها والمحافظة على أدائها في أوقاتها.
وفي { يابني أَقِمِ الصلاة } [ لقمان : 17 ] إضافات التحنن وفيها إيناس للسامع أن يقرب ويستجيب للحق .
وفي هذه الآية قال لقمان لولده : { يابني أَقِمِ الصلاة } [ لقمان : 17 ] ولم يقل : وآتِ الزكاة ، فلماذا؟
ينبغي أن نشير إلى أن القرآن جمع بين الصلاة والزكاة؛ لأن الصلاة فيها تضحية بالوقت ، والوقت زمن العمل ، والعمل وسيلة الكسب والمال ، إذن؛ ساعة تصلي فقد ضحيْتَ بالوقت الذي هو أصل المال ، فكأن في الصلاة تصدقت بمائة في المائة من المال المكتسب في هذا الوقت ، أمّا في الزكاة فأنت تتصدَّق بالعُشْر ، أو نصف العشر ، أو رُبْع العشر ، ويبقى لك معظم كسبك ، فالواقع أن الزكاة في الصلاة أكبر وأبلغ من الزكاة نفسها .
إذن : لما كانت الزكاة في كل منهما ، قرن القرآن بينهما إلا في هذا الموضع ، ولما تتأمله تجده من دقائق الأسلوب القرآني ، فالقرآن يحكي هذه الوصايا عن لقمان لولده ، ولنا فيه ملحظان :
الأول : أن الله تعالى لم يكلِّف العبد إلا بعد سِنِّ البلوغ إلا في الصلاة ، وجعل هذا التكليف مُوجهاً إلى الوالد أو ولي الأمر ، فأنابه أن يكلف ولده بالصلاة ، وأن يعاقبه إنْ أهمل في أدائها ، ذلك ليربي عند ولده الدُّرْبة على الصلاة ، بحيث يأتي سِنّ التكليف ، وقد ألفَها الولد وتعوَّد عليها ، فهي عبادة تحتاج في البداية إلى مران وأخذ وردَّ ، وهذا أنسب للسنَّ المبكرة .
والوالد يُكلف ولده على اعتبار أنه الموجد الثاني له ، والسبب المباشر في وجوده ، وكأن الله تعالى يقول : أنا الموجد لكم جميعاً وقد وكَّلتُك في أنْ تكلِّف ولدك؛ لأن معروفك ظاهر عنده ، وأياديك عليه كثيرة ، فأنت القائم بمصالحه المُلَبِّي لرغباته ، فإنْ أمرته قَبِل منك واطاعك ، فهي طاعة بثمنها .
وطالما وكلتك في التكليف فطبيعي أنْ أُوكِّلك في العقوبة ، فإنْ حدث تقصير في هذه المسألة فالمخالفة منك ، لا من الولد؛ لأنني لم أُكلِّفه إنما كلَّفْتُك أنت .
وطالما وكلتك في التكليف فطبيعي أنْ أُوكِّلك في العقوبة ، فإنْ حدث تقصير في هذه المسألة فالمخالفة منك ، لا من الولد؛ لأنني لم أُكلِّفه إنما كلَّفْتُك أنت .
لذلك بدأ لقمان أوامره لولده بإقامة الصلاة ، لأنه مُكلَّف بهذا الأمر ، فولده ما يزال صغيراً بدليل قوله { يابني . . } [ لقمان : 17 ] فالتكليف هنا من الوالد ، فإنْ كان الولد بالغاً حال هذا الأمر فالمعنى : لاحظ التكليف من الله بإقامة الصلاة .
أما الزكاة ، وهي تكليف من الله أيضاً فلم يذكرها هنا - وهذه من حكمة لقمان ودقَّة تعبيره ، وقد حكاها لنا القرآن الكريم لنأخذ منها مبادئ نعيش بها .
الثاني : إنْ كلَّفه بالزكاة فقال : أقم الصلاة وآتِ الزكاة فقد أثبت لولده ملكية ، ومعروف أن الولد لا ملكيةَ له في وجود والده ، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « أنت ومالك لأبيك » وذكرنا أن لقمان لما علم بموت أبيه قال : إذن ملكتُ أمري فأمره ليس مِلْكاً له في حياة أبيه؛ لذلك لم يأمر ولده بالزكاة ، فالزكاة في ذمته هو ، لا في ذمة ولده .
والله أعلم.
إن المسلم مُطالب حقا بقراءة القرآن الكريم، وتلاوته على الوجه الصحيح الواضح، تلاوة خاشعة يفهم معانيه، ويعرف مراميه، ويطلع على أهدافه، فهذا يُوجِد في النفوس وقوداً لمتابعة الحياة على بصيرة ورؤية واضحة، ويمنع المسلم من الوقوع في تخبطات الملحدين وتيه الليبرالين وتعصب بعض الفئات الاسلامية التي تُجيد اتكفير والتضليل والتفسيق .
فالقرآن حبل المتين والطريق المؤدي لجنات النعيم.
أَكْـرِمْ بقـومٍ أَكْرَمُـوا القُرآنـا***وَهَبُـوا لَـهُ الأرواحَ والأَبْـدَانـا
قومٌ.. قد اختـارَ الإلـهُ قلوبَهُـمْ***لِتَصِيرَ مِنْ غَرْسِ الهُـدى بُسْتَانـا
زُرِعَتْ حُروفُ النورِ.. بينَ شِفَاهِهِمْ****فَتَضَوَّعَتْ مِسْكـاً يَفِيـضُ بَيَانَـا
رَفَعُوا كِتابَ اللهِ فـوقَ رُؤوسِهِـمْ***لِيَكُونَ نُوراً في الظـلامِ... فَكَانـا
سُبحانَ مَنْ وَهَبَ الأُجورَ لأهْلِهَـا***وَهَدى القُلُوبَ وَعَلَّـمَ الإنسانـا
المصادر:
*تفسير اللباب في علوم الكتاب لابن عادل الحنبلي.
*التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور.
*تفسير الشعراوي.
*تفسير روح المعاني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق